جدل التجريب والتغريب وأثره في تطور الشعر العربي..

نبيل شوفان




مقدمة
في الحقيقة، إنها المرة الثانية التي أعد فيها بحثا، ولكنها الأولى التي أعد فيها بحثا عن كتاب، وأي كتاب! إنه كنز يحمل عنوان “التجريب والتغريب في الأدب العربي المعاصر” للمؤلف الدكتور عبد السلام محمد الشاذلي الذي اصطحبني برحلة غوص في خلفيات الإبداع الأدبي العربي الحديث.

يتألف كتاب الدكتور الشاذلي من ثمانية فصول تناقش الشعر العربي القديم والمعاصر، والرواية الشعبية والمعاصرة من خلال تأثرهما بظاهرة التغريب والتجريب في الأدب العربي المعاصر وتقاربهما وعلاقتهما الوثيقة بين بعضهما وكيف أدّيا إلى تطور الشعر العربي الحديث وهو ما سيكون الموضوع الأساسي للبحث، ثم كيف أدى هذا التطور الأدبي إلى حركات ثورية في المجتمعات المحلية كعملية التجريب في أسلوب أدب الزبيري في تجربته الشعرية، والسردية النثرية المتجسدة في رواية مأساة واق الواق، وعلاقة ذلك بمشكلات المجتمع اليمني زمن الثورة الدستورية، كما يتحدث الشاذلي عن التغريب كمفهوم ملازم إلى حد كبير للتجريب، يراهن على تصالحه مع الثقافة والتراث والحضارة العربية عند الزبيري وأبو القاسم الشابي ويتحدث عن تشابه مسيرتهما في هذا الصدد.

وفي الفصل السادس يتحدث الدكتور الشاذلي عن التغريب والتعريب في الأدب العربي المغاربي فيتحدث عن فن المقامات، وقد لفتتني مقولة بدأ بها هامش بحثه قالها لعبد الملك مرتاض” كانت أعناق الجزائريين مشرئبه أبدا نحو الشرق: تستلهمه وتستوحيه، وتستمد منه المعرفة وتغترف من كتبه ومجلاته الحكمة، وهذا التشريق كان تغريبا يا دكتورنا الرائع والجميل، وهنا أشير إلى أن ممارسة التجريب في المغرب لطالما كان أقل وطأة منه في المشرق، حيث تتعدد الأسباب لكن إحداها احتكاكهم بالغرب في وقت يعتبر فيه التجريب سمة أوروبية.

كما أردت أن أجرب بعض المدخلات النظرية في كتاب الدكتور الشاذلي في الميدان الأدبي العربي الأحدث، فخرجت من تطبيقات الكتاب إلى إسقاطها على ديوان بعنوان “إنستغرام” للشاعر العراقي حكمت الحاج الصادر عام 2018 عن منشورات (مومنت) في محاولة مني لامتحان قراءتي وفهمي لأفكار وتنظيرات الدكتور الشاذلي، ومدى صلاحيتها للتطبيق على أعمال أخرى صدرت بعد صدور كتابه التغريب والتجريب في الأدب العربي المعاصر، إذ إن ديوان إنستغرام صارخ بعملية تجريبية فريدة تبدأ بعنوان الديوان الذي يوحي بما بعد الحداثة في عملية خلق الصور، ولا تنتهي بحواشيه وخاتمته المليئتان بأنواع التغريب.

تجريب وحداثة
منذ مطلع التاريخ شكلت القصيدة، شيئا جميلا لطالما كان موضوعه اللغة وانحرافاتها وأشكالها، ولقد مرت القصيدة التي وجدت للاحتفال بالعالم بذلك التصميم الذي خضع لقواعد صارمة رغم تبدلها وسعيها للوصول إلى الشكل الحر “الذي لا حداثة بعده”، ثم أصبحت مع سيرورة الزمن مكانا لاستكشافات جديدة فكانت الابتكارات الشكلية والموضوعية أمرا ساهم بتجدد الشعر ليخدم طموحات جديدة في التعبير عن الواقع المتغير بدوره، إنها وظيفة الشعر بكشف العوالم للعوالم.
إن اختزال النص الشعري في قواعد معينة لا تتغير إلا وفق إيقاع بطيء جدا تعدمه القدرة على أن يكون قادرا على التقاط كل تعقيدات الواقع، خاصة وأن عصرنا أصبح معقدًا بشكل أكبر، في حين على الشعر أن يرسم أوسع صور ممكنة للواقع لا أضيقها.
إن القواعد اللغوية الحازمة لا توفر دائما فرصة لإعطاء الرضا للبوح بالتدفقات، لا بد أن نعيد فهم الإنتاج الشعري بشكل أوسع من هذه المتطلبات الاختزالية على أهميتها، إذ لا يجب أن يوضع الشعر بقالب مفهومي ثابت لما يجب أن يكون، فنقول هذا هو وليس أي شيء آخر، أو أن نقول الأول هو الأفضل ثم نقيس عليه، بل إن الشاعر المبدع هو الذي يشرع في تأسيس ما يمكن أن يكون اختلافًا شعريًا، ثم إنه كيف يمكن أن نجرؤ على أن نقرر مسبقا أننا نفهم الشاعر. وإذ نميز نوعين من التجريبية:
التجريبية الجذرية حيث يتم إبداع شيء جديد حد مناقضة لما هو موجود بالفعل، بل وخلق أجناس أدبية جديدة، كقصيدة “ما بعد النثر والتفعيلة”،  و”الرواية القصيرة جدا” التي أعلن عنهما الناقد والشاعر العراقي حكمت الحاج.
والتجريبية المتدرجة وهي أكثر جاذبية للجمهور.
فإن سؤالا يبقى مطروحا وهو: هل المجتمعات تؤثر بالشعر أم أن الشعر يؤثر بالمجتمعات، تبدو الإجابة ضرورية لنعرف على من أن يأخذ بزمام المبادرة؟.

التجريب والابتكار
نكاد ونحن نقرأ كتاب الدكتور عبد السلام الشاذلي أن لا نفرّق بين التجريب والابتكار، فالتجريب اصطلاحا وليس لغة مفهوم يؤدي بالضرورة إلى الابتكار، على اعتبار أن الابتكار بمثابة عملية، وليس كحالة يتم استيعابها خارج ديناميكيتها، ومع العلم إن كل الابتكارات بحاجة للاعتراف من قبل المجتمع، إلا أن سؤالا يطرح على المتذوقين والنقاد إذا كان وضعهم كمتذوقين للشعر يمنحهم حق كبح جماح الأدب.

تبدأ العملية التجريبية من تلك اللحظة التي ينقل فيها الإنسان الفرد مركز اهتمامه بعيدًا عن الروتين، فيفكر بشي ما بطريقة مختلفة غير اعتيادية، وخارج النظرية الموجودة، لأسباب ربما تتعلق بعدم الاستسلام لخيبة أمل من النتائج نفسها، أو ربما لشخص يحتاج نجاحا ما مختلفا، فينتقل بتركيزه الذي يكون حصريا ضمن أطر وقواعد عملانية معروفة إلى مستويات أخرى من التجربة، محاولا بشكل أقل وطأة منهجية أن ينافس حتى يصل إلى الابتكار أو الإبداع، وغالبا ما يضطر للقتال حتى ينتزع الاعتراف.

إن العالم كما الفنان كما الشاعر في حالة السباق من المنبع إلى المصب يحاول أن يكون أفضل الساعين إلى الكمال أو الأصالة، تجعله هذه المحاولة ممعنا في إتقان عمله فيحاول جاهدا ألا تفلت منه قواعد، وألا يرتكب خطأ في التصميم، لكن المشكلة في أن هذا الشاعر -في حالة الشعر- سيكون تحت سيطرة مصمم السباق وقواعده، خائفا من الفشل، وهذا في الحقيقة سيقضي على جميع التصورات المختلفة التي يمكن أن تكون لديه.

إن ما سبق يقودنا لاكتشاف أن السعي للكمال قد يمتلك تأثيرا يختزل الأعمال التي يحتمل أن تلدها الأفكار المختلفة إلى منتجات أنانية بسيطة، ما يخضع المبدعين المتصارعين في هذا المجال وربما الأكاديميين خاصة إلى ممارسة رقابة ذاتية صارخة وغير مسبوقة على أنفسهم تحت اسم السعي إلى الكمال، تكمل دائرة الخوف هذه مؤتمرات وندوات غالبا ما تبلور صراعا جديدا بين الفائزين في السباق الخاضعين لهذه التصاميم -وهم مبدعون غالبا-إلا أنهم يصبحون بدورهم معنيين في موقف الرفض القاطع لابتكارات هي بالأساس موجودة بداخلهم، يحكمون عليها بالنسيان بحجة خروجها عن السياق، فيعتقدون أنها غير شرعية لا فائدة منها.

ومن المفارقة أن المستسلمين للأصالة بحد ذاتهم هم رقباء المستقبل ومقررون حصريون للشكل السائد للإنتاج، وإذ لا يعود الأمر لهم لتحديد موقع رحلتهم في التاريخ الأدبي والفني، فيصبح بالإمكان تفسير تأخر نجاح النزعات المعاكسة للأشكال التقليدية للشعر العربي المعاصر، وخصوصا في الشرق العربي.

فليسمح لي القارئ أن أذهب أبعد فأقول إن أي مشروع منهجي فني أو أدبي أكاديمي يدفع المبدعين منذ لحظة لمعان الفكرة برأسهم إلى البحث عن أقران للتعبير عن ممارساتهم الخاصة في سياقات نظرائهم، ذلك أن السياقات المتشابهة تبعث في أنفسهم الطمأنينة وتساهم في تعميم نهجهم الخاص فيما بعد- رغم عدم خلوه من الفردانية، لكن خلوه من التجريب-، فتدرج أعمالهم على التاريخ الأدبي من بعدهم كتثبيت للقواعد المألوفة، فتكون للعلاقة التي يبنيها ويتبناها الشاعر بين التقليد التاريخي وممارسته المعاصرة تأثيرا سلبيا يمكن في بعض الحالات أن يثبط أي عملية إبداعية جديدة مختلفة.

إن ما يقوله الدكتور الشاذلي في كتابه دونما إحراج هو أنه لا تجديد دون تجريب ولا تجريب دون تغريب، وأن التراث يمكن أن يفيد عملية التجريب والتغريب ويرفدها بدل عرقلة مسيرتها، ويستدل بالتاريخ عن تغريب الذي بدأ منذ مطلع التاريخ، ويلمح إلى أن جهل البيانات التاريخية بهذا الخصوص له تأثير الفرامل على الشعر العربي بمكان ما، حيث فراغ المعلومات التاريخية عن التغريب هو ما يسمح بحدوث الأصالة بمفهومها السلبي هنا، أي أن المعلومات الأكاديمية المتاحة في الحال والمتوفرة بطريقة غير مسبوقة لها تأثيرات متضادة، فهي من جهة لا تسمح بحدوث شيء أكثر أكاديمية، علما أن الشعر والأدب والفن وحتى العلوم حالة أقدم بكثير من الأكاديمية، وعلى النقيض فإن جهل هذه المعلومات والقواعد يمكن أن يكون قوة دافعة لاكتشاف مخلوق أدبي جديد.

مفهوم التجريب والتغريب والعلاقة بينهما
إن هذه الابتكارات الجديدة ما كانت لتكون لولا التجريب، رغم وجودها قبل وجود هذا التجريب كمفهوم علمي، ولربما لا يتعارض هذا المفهوم العلمي للتجريب مع موازيه الأدبي، فإن كان التجريب العلمي أرقى و ارصن أنواع ابتكار العقل الإبداعي القائم على الحقائق، فإن هذا العقل نفسه متصل بالحالة الوجدانية عند المبدعين في العلوم الإنسانية حيث تقوم الحواس بالشعور بالحالة الإنسانية وتطلب من العقل تفسيرها من خلال تجريدها شعرا على سبيل المثال.

إن التجريبية مفهوماً، مختلف عن التجربة، فالأول عملية مستمرة، حوار بين ثقافتين، أو نوعين أدبيين، يفرضها الجسد الأدبي ليصل إلى الجمال الجديد المتبدل المتجدد، الجمال في التجريبية هدف، فالتجريبية ليست عملية اعتباطية بل منهجا يحتاج الكثير من التحلي بالنقدية الذاتية، والإلمام بسياقات الذائقة الموجودة، والتسلح بالأساليب الفنية، ويبدو أن التجريبية سمة أوروبية ظهرت مع بدايات عصر التنوير، ذلك حين انطلقت الحركة الأدبية جارفة ما هو سائد من مفاهيم للثقافة وللجمال، فأخمدت مشاعل حراس “الأصالة”.

إن التجريبية سيل وعي، لإدراكها نحتاج وعيا نقديا، ووعيا ذوقياً يوصلنا مع ما يسعى المبدع لإيصاله، من أفكار، أو مونولوج داخلي، تتدفق عبره المشاعر التي تمر في العقل، على شكل كلمات وجمل ربما تكون مفككة، تحاول لملمة أفكار غير مترابطة متداخلة مع جريان فكري داخلي دافق لكنه متقلب متفاعل بين الماضي والحاضر بين الشرق والغرب بين الشعر والرسم التشكيلي، وبين الشعر والموسيقا، وبين الكلمة وجرسها، وبين علامات الترقيم نفسها، وبين التحريك، والتسكين، والترصيع، والتناص، وإدخال الكلمات الأجنبية، أو الغريبة إلخ.
وكذا يمكن القول أن القصيدة التي تحمل عنوان “من تكونين” في ديوان إنستغرام، تخلخل الجزء اللغوي المقترن باقتصاد الفراغ حين يقول (أشتاقك أنت وأنت من تكونين)، وكأنه ينثر العناصر اللغوية ليركز انتباهنا على ما سيأتي منه من جواب، فيجذبنا سؤاله ويجعلنا ننتظر جوابه:

(من تكونين..
أشتاقك عدد نوارس البحر في جرجيس
أشتاقك عدد حبات الرمل في تطاوين
أشتاقك عدد الأرقام في كتاب الحساب
أشتاقك عدد الحارقين في بحار الله)

في نفس القصيدة يجرب الشاعر التغريب فيعطي كل كلمة أكثر من مفهوم فيصبح للنص معاني كثيرة تجعلك تعود إليه مرارا حين يقول:

(ولثمنا الحجر الأسود في الثنايا
وسعينا بين الصفا والمروة
ونحرنا في عرفات
وما حظينا بالشفاعة منك
يا ماء أسود يا أنت
بالدلال)

وكأن الشاعر يتحد مع المجتمع بأكمله، من خلال تغريب المشاعر التي تعتمل فيه وجعلها أكثر غرابة وأكثر فردانية لكن في الوقت ذاته أكثر عمومية وإحساسا ومعنى مألوفا رومانتيكيا، وهذه عملية معقدة بحسب مؤلف كتاب التجريب والتغريب في الشعر العربي المعاصر الدكتور عبد السلام الشاذلي.

إن التغريب وفق الشاذلي ليس مصطلحا بسيطا بنواة معنوية واحدة، بل إنه مفهوم متعدد المعاني وظاهرة معقدة وعملية متشابكة إلى حد بعيد، وإن المفهوم يمت للغربة وللغرابة وللتأثر بالغرب وحتى للاستعمار القادم من الغرب.

فيتحدث مرة عن دوافع التغريب التي تدفع بالإنسان أن يعيش حياة (الاغتراب) و(الغربة) بل و(الغرابة) بتنوعاتها الاجتماعية والسياسية والروحية والثقافية والدينية وحتى الشكلية التي أبدأ منها، وهذا الأمر يحدث في ديوان إنستغرام للشاعر حكمت الحاج حيث نصدف مثلا قصيدة بالعراقية المحكية تبدو غريبة على غير العراقيين بل إن الشاعر اقتبسها بالكامل من الشاعر العراقي الشعبي الراحل (غازي ثجيل) ووضعها في منتصف ديوانه غير معادية للفصحى بل تبدو كأنها ابنتها تطل بين النصوص الفصيحة برشاقة تجعل كل من يقرأ الديوان يشعر بالغرابة والجمال والحنين فتنجح تجريبية حكمت الحاج نجاحا باهرا أقتبس منها قول الشاعر:
(يا ليل طشني الدهر
طشة خرز مو محسوب
يا ليل لفني السهر
وشبعد السهر يا ليل
مو حتى دمعي انقضى
وانباك مني الحيل
يا ليل رد النجم
روحي العزيزة تلوب
بكل ساعة اهب من تهب
نسمة بتوالي الليل)

وكأن الشاعر يرغب بمساعدة القارئ العربي على استعادة معنى البداوة النقية، حيث العودة إلى الأصل لا يفضي شرطا إلى عربية فصحى تزين الفكرة المراد إيصالها، بل إن الفكرة محمولة بذات التجريب الغريب هذا، وما تبقى من ثروات لغوية بدوية في القصيدة هي تعمق هذه الفكرة وما زلنا نتحدث عن الحنين إلى الأصل.

في كتابه يؤكد الدكتور الشاذلي أن التغريب “نفي للوجود وللحياة” وبالتالي فهو “نفي للهوية”، خصوصا عندما يكون إكراهيا عنيفا استعماريا، ولكن الوجه الآخر لعمله ومرادفاته المختلفة هو “التمرد على المستوى الفردي”، و”الثورة على المستوى الاجتماعي”، ويدافع الشاذلي عن التغريب بمعناه الخلاق فيقول: “وقد نجد في رصد ظاهرة الاغتراب بجانبيه: السلبي والإيجابي، وأيضا في بعديه: المكاني والروحي، بعض مراحل التقطع سواء في تراثنا الأدبي أو الفكري بوجه عام، وذلك باستثناء واحد، وهو فن المقامات في النثر العربي”. ويضيف قائلا: “إن ظاهرة الاغتراب في شعرنا العربي قديمة ومرتبطة حتى بالعصرين الجاهلي والعباسي لارتباطها بقضية الاحتكاك الثقافي بين حضارتين، مثلما نرى في الأبيات المنسوبة إلى امرئ القيس وهو يقف حائرًا وضائعا على حدود الإمبراطورية الرومانية”:

(أَجَارَتَنَا إِنَّا غَرِيبَانِ هَاهُنَا
وَكُلُّ غَرِيبٍ لِلغَريبِ نَسِيب
فَإِنْ تِلِينَا فَالقَرَابَةُ بَيْنَا
وإِنْ تصْرَمِينا فَالغَريبُ غَريب
ولَيْسَ غَريبًا مَنْ تَنَاءتْ دِيَارُهُ
ولَكِنَّ مَنْ وَارَى التُّرَاب غَريب)

ويتابع الدكتور الشاذلي فيقول إن مظاهر الاغتراب موجودة بكثرة في الشعر العربي القديم، “كما نجد التعبير عن هذا الاغتراب الإنساني، في العصر الجاهلي ذاته، ذا ملامح وقسمات روحية مختلفة تماما عند فريق من الشعراء الصعاليك، وذلك نظرا لتغير الأرضية، الاجتماعية لهذا الاغتراب، وتنمو لدى بعض الشعراء في العصر العباسي مشاعر الاغتراب الروحي المتباينة الدوافع كما نجد عند «مهيار الديلمي»، و «أبي نؤاس»، و«بشار بن برد» وهي دوافع قد يختلف في تباينها النقاد والدارسون ، كما نرى مثلا في تفسير العقاد لاغتراب “أبي نؤاس” على ضوء الدراسة النفسية، أو كما نرى عند “طه حسين” في تفسيره للاغتراب  عند “أبي الطيب المتنبي” من زاوية التفسير الحضاري أو الاجتماعي للحياة الأدبية العربية في العصر العباسي.

و”تتجلى ظاهرة الاغتراب والتغريب في منتصف القرن الرابع عند المتنبي خاصة، في موقفه الحضاري المختلف من الحضارة ما بين النهرين، أو في مصر بعهد كافور الإخشيدي، أو غيرهما من مناطق الحدود المتاخمة لإمارة سيف الدولة الحمداني، مثله الأعلى في قيمه السياسية والأخلاقية، حيث تراه يصور غربته الكاملة وهو في طريقه إلى أرض “فارس”:

(مَغَانِي الشعب طيبا في المغاني
بمنزلة الربيع من الزمان
ولكن الفتى العربي فيها
غريب الوجه واليد واللسان)

كما يعطي الشاذلي -كما العقّاد- مفهوم التغريب بعدا نفسيا فيربطه بتَراجُع الخطِّ الحضاري للأمَّة الإسلامية، وشعور المسلمين بالغربة لافتقادهم مكانتَهم ودورهم الريادي بين أمم العالم المعاصر، ويورد مثالا “قصيدة ابن زُرَيق البغداديِّ الَّتي تحدَّث فيها عن غُربته في بلاد الأندلُس بعد أن تركَ بغداد طلَبًا للرِّزق ومات غريبًا بالأندلس وترك قصيدة من عيون الشِّعر العربي، حيث يقول في عينيته أو في “فراقيته”:

(استودعُ الله في بغداد لي قمراً
بالكَرخِ من فلك الأَزرار مَطلَعُهُ
ودَّعتُهُ  وبودّي لَو يودعُني
صفو الحياة وأَنّى لا أَودعُهُ
وكم تَشبَّثَ بي يوم الرحيل ضُحىً
وأدمعي مُستَهِلّات وَأَدمُعُهُ
لا أَكُذب اللَه ثوب الصَبر مُنخَرقٌ
عَنّى بفرقتهِ لكن أَرَقِّعُهُ)

و يذهب د. عبد السلام الشاذلي أبعد من ذلك فيتحدث عن غرباء برزوا كطائفةٍ من أبناء الأمَّة حاولَتْ جاهدةً أن تُعيد الأُمَّة إلى الحياة الحقيقيَّة بعد فترةٍ من الجمود، فواجهَتْ ظروفًا صعبة ورفضهم المجتمع بل حاربهم ونكل بهم، فعاشوا غُرَباء بين أبناء جلدتهم يحاولون الإبقاء على القيم المُثْلَى التي تعيش في قلوبهم.

وفي الحقيقة إن ذلك تجلى في قصيدة (في مديح التلمذة) للشاعر حكمت الحاج في ديوان المذكور “إنستغرام”، إذ هي قصيدة يبدو أنه اكتشفها عند زيارته متأخرا  إلى مصر حيث وجدها منشورة في العدد 157 من مجلة “القاهرة” لعام 1995 ضمن ملف خاص بالأدب العراقي، تقول:

(ذهبوا إلى مقاعد الدرس
ليبحثوا عن آثارهم البائدة
ذهبوا وما اغتنوا عن شيء
ولما أفاقوا من تواتر الأخبار
كانوا قد ذهبوا
ونحن لم ننتظر
فما لدينا من العمر
أقل بكثير مما لدى ذبابة
ذهبوا إلى مقاعد الدرس
لا ليصبحوا تلاميذ ويدرسوا علما
بل ليقتصوا من أحلامهم
وذهب
وذهب
وذهب..
قائمة طويلة من الذاهبين إلى قصاصهم)

ليس صعبا ملاحظة كيف يريد هؤلاء الانتقام من أساتذتهم الذين يتبنون قيمهم ودروسهم في أوطان لا تقدر بالضرورة هذه القيم، فيعترض حكمت الحاج ثم يتشفى متألما من دروس لم تنفع لبقية العمر وربما جعلته غريبا بين أبناء جلدته.

العلاقة بين التغريب والتجريب
إن العلاقة بين التجريب والتجربة ليست وثيقة اصطلاحيا كما هي بين التجريب والتغريب، فالأخيرين مصطلحان متلازمان إلى حد كبير و”متلاحمان” وفق الدكتور الشاذلي، وإذ ينطلق التجريب من التشكيك بالعالم وبالظواهر التقليدية التي يحتويها، فيلاحظها ثم يفحصها، فإن يتخطاها بالتغريب من خلال إدخال تجربته الشخصية الفريدة الغريبة عليها فيتحقق الإبداع كحالة إنسانية مستمرة آخذة بالتنوع لا يمكن تأصيلها أو تأطيرها، وهذا يعني أن لا تغريب دون تجريب فهو بحد ذاته عملية تجريبية والعكس ليس صحيحا.

ويمكن القول إن الإبداع ابن التجريب حين يتفاعل مع الظواهر في كل مكان ويتأثر بها، أدبيا يأت الشعر كنص لغوي يستطيع عبر انحرافاته اللامنتهية على حمل كل ازدهار وتنمية وتقدم وتمدن وحضارة ورقي وفورة قيمية، وهذا يعود إلى قدرته على حرف اللغة بما يتناسب مع التجربة التي يعيشها الشاعر بعد انفتاحها على تجارب الآخر، وعلى مختلف بناءات النفس والهوية البشرية المعقدة التي لا يمكن قولبتها، فيصل الشعر حينذاك إلى التحول والتجدد والإبداع.

لا يؤمن التجريب بالحقائق الثابتة، ولا بالقواعد المرسومة، بل ينزع إلى المساهمة بإعادة رسم الخطوط العريضة لجماليات اللغة والحالة النفسية الإنسانية والظاهرة الطبيعية التي يتم تناولها، فتظهر كتابات جديدة توسع نطاق النصوص الأدبية لتتجاوز الشرعية السلطوية الموجودة كمعيار للأدبية، بل تتجاوز كذلك الوسيط في عملية التغريب، فتخلق أدبا جديدا لا يمكن التنبؤ بشكله وملامحه بل يضرب موعدا مع خلق جديد وإبداع جديد ينغمس بالأدب في عوالم غير مسبوقة، بأدوات حديثة تشترك بها كل اللغات السامية على الأقل.

التغريب الإكراهي المتعلق بالاستعمار أو رفض المجتمع
إن التغريب وفق الدكتور الشاذلي لم دائما طوعيا في دخوله على حركة الفنون العربية المعاصرة عموما والأدب خصوصا، والشعر خاصة، فلقد تميز هذا الدخول بنزعة حادة وشرسة وعنيفة أحيانا، خاصة في ثلاثة من الأقطار العربية هي الجزائر، اليمن، فلسطين بسبب تعرضها للاستعمار فكان التغريب أحيانا بربريا تفرضه قوى عدوانية داخلية وخارجية معا.

ويضرب مثالا في الاستعمار الفرنسي في شمال أفريقيا، والاستعمار البريطاني للعرب باليمن، ويضيف إلى ذلك بالطبع، ما حدث من تشريد عنصري ووحشي للشعب الفلسطيني عام (1948)، الأمر الذي جعل من مأساة فلسطين في التاريخ العربي الحديث قمة الضياع والتغريب في جسد وروح الأدب العربي الحديث.

وليسمح لي القارئ أن عملية التغريب الاستعماري استحالت لاحقا إلى تغريب طوعي مع قرب البلدان العربية “المغاربية” جغرافيا من الغرب، ما منحها قدرة قصوى على التجريب الذي طال حتى تراثها المتنوع أصلا، من عربية وبربرية وأمازيغية وصحراوية وأفريقية وإسلامية، فاشرأب أدباؤهم شرقا وغربا وكتبوا بكل اللغات، حتى ذهب بعض المتعصبين إلى عدم الاعتراف بالأدب الفرانكفوني المغربي على أنه إبداع يعبر عن المغرب أو عن الإنسان العربي، بل تم ضمه إلى الأدب الفرنسي، وعلى النقيض هناك من اعتبر الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية أدبا عربيا مكتوبا بالفرنسية، مع عدم النسيان أن أدباء فرنسيين كألبير كامو ولدوا بالجزائر مثلا، وأقصد هنا سامحا لنفسي بالتلميح إلى التقارب الروحي بين الشعرين العربي والفرنسي بما فيهما من الإثارة العاطفية والاهتمام بالمشاعر الإنسانية وطريقة التعبير الفنية المتقنة واللمعان الإبداعي والاهتمام بالحياة ومعالجة مشاكل المجتمع والحوار وذلك المزيج بين السحر والرومانسية والواقعية والتجريبية والغموض والقلق الذي يشرك القارئ بالتأويل بل وحتى خصائص عربية بحتة كالبدائية المتعلقة بشدة الصدق، وألاحظ ذلك متكررا في قصيدة (أميله وماكال) في ديوان “إنستغرام” لحكمت الحاج، الشاعر العراقي الذي أقام في تونس والشمال الإفريقي لمدة طويلة من الزمن:
(لا أحد في هذه المدينة الساحلية
كان يعرف إن كانتا أختا وأخت
أم أماً وبنت
أم خالة وابنة أخت
أم عمة وابنة أخ
أم جدة وابنة ابن
أو جدة وابنة بنت….
لكن رجال الميناء جميعهم
وبغايا منتصف الليل
ودوريات البوليس والباعة المتجولون
والباندية والزوفرية
يعرفون إن أميله وماكال
ما كانتا لتفترقا
مهما اشترطت وأوغلت في الدفع)

وكما هو الحال كذلك في قصيدة “جمهورية أفلاطون” التي تبلغ فيها التجريبية عملية معقدة بين الشكل الاستجوابي الطارح للأسئلة وبين المضمون القيمي والاقتباس من كتاب أفلاطون الشهير، كما سنتحدث في المثال التالي:
(س: وقد سلمنا إذا كنت تذكر أن في هذا خير الدولة الأعظم. قياسا للدولة الحسنة النظام على الجسم العضوي باعتبار مشاركته كلا من أعضائه في اللذات والآلام.
غ: نعم، وبالصواب فعلنا
س: فقد اكتشفنا إذا أن شيوعية نساء الحكام وأولادهم هي سبب خير الدولة الأعظم.
غ: تماما هكذا
س: وهكذا تتفق مع ما سبق تقريره لما قلنا إنه يجب ألا يملك الحكام ملكا خاصا، لا بيوتا ولا عقارا ولا شيئًا آخر، بل يتناولون نفقاتهم من الأهالي جزاء عملهم.
وينفقون مشتركا إذا راموا أن يكونوا حكاما حقيقيين)

نلاحظ كيف يعاني الشاعر من حساسية متفاقمة ورغبة كبيرة بالتحرك بالقصيدة نحو حوار حديث ينتقد سوء فهم الإنسان لتراثه الثقافي كتغريب ضاري يأكل وجدان الشاعر.

التغريب ظاهرة قيمية كونية
ما إن نفتح كتاب الشاذلي حتى نلاحظ أنه مأخوذ بالقيم الكونية وبعلاقتها بالتغريب ويقول في إهداء الكتاب إنه مهدى إلى أساتذته وأصدقائه الذين هم أحفاده، ثم يقول: في زمن لا غربة فيه ولا تغريب زمن للعدل والحرية والكرامة الإنسانية وإلى شهداء هذه القيم الإنسانية الخالدة. يقول الدكتور الشاذلي: “إن الاغتراب والتغريب بمعناه العام الثقافي والاجتماعي والروحي والجسدي هو ظاهرة إنسانية تتجاوز الحدود الزمانية والمكانية والتاريخ والحضارات وتتصل بقيم الإنسان وبحثه الدؤوب عن العدل والحرية والكرامة الإنسانية كقيم إنسانية مطلقة، قيم قد تقيدها النظم الاجتماعية هنا أو هناك ولكن يظل السعي البشري لتحقيق هذه القيم الإنسانية على أرض الواقع هو ما يسمي تاريخ الثورات ضد التغريب والاغتراب البشري ولعلنا نجده في السيرة الفكرية لأحد زعماء حركة التنوير الفرنسي في القرن الثامن عشر جان جاك روسو، الذي مهد بفكره الثوري طريق الثورة الفرنسية الكبرى عندما عرف معنى الاغتراب والتغريب في حياته الفردية وتمرد عليها”.

ويشير الدكتور الشاذلي إلى ما خلص إليه الدكتور عبد الملك مرتاض استكمالا لبحثه القيم في (فن المقامات) في معالجته لقضية التأثير والتأثر بين مقامات بديع الزمان ورسالتي الغفران للمعري، والتوابع والزوابع، فيقول “ويحمل كتاب (فن المقامات) للدكتور مرتاض الباحثين العرب اليوم سمة نادرة لدى الباحثين العرب اليوم، وهي سمة القدرة الأدبية على الاعتراف بالخطأ والتراجع الشجاع عن التمسك بقضايا أثبت التطور في مجال البحوث بطلانها”.

ويبدو إن الإرث القيمي الكوني كان حاضرا في أدبنا المعاصر في نصوص جبران خليل جبران وأمين الريحاني وبدر شاكر السياب والبياتي ونازك الملائكة وأدونيس وخليل حاوي ونزار قباني، كلهم اسهموا في إثراء الإبداع العربي بقيم الكونية كما هو حاصل خصوصا عند خليل جبران وأدونيس ونازك الملائكة.
ينتقد حكمت الحاج في قصيدته “وأخيرا” غياب قيم الصداقة والأمانة في المجتمعات العربية لصالح الخيانة والخديعة وأقتطف منها:
(ودفنت الصور الغربية بيننا
كان الغدر يفوح من ثيابها
كان السر منطلقا
والخيانة مثل محراب
والخديعة صلاة
أشتري الكرواسانت الساخن بعد أن
(شربت شاياً في الطريق ورتقت نعلي)
لم أعش يوما كصقر في الأعالي
وأنا أتذكر محبوبتي الضائعة
بقايا نشيد على أمة لم تكن أبداً
ذات يوم صالحة)

أيضا يدخل الشاعر الحاج في عملية تغريب للقيم من خلال التغني بـــ”الحرية” كفارس. يقول في قصيدته “روليت روسي”:

(حريتي هي رأس مالي الوحيد
لقد جربت الاعتقال والسجن مرات
وفي كل مرة كانت حريتي بأمان
لم ولن ولا يمسسها أحد)

يجرب الشاعر التغريب في الصمت الذي يتبع القصيدة ذلك البياض الذي يتبع الجلل الذي يحدثه السكون في كلمة أحد ثم يترك القارئ أمام مساحة بيضاء لكنها مادية تستطيع حمل كل النقوش واللغات، هكذا يصبح نص حكمت الحاج قابلا للكتابة، يلبي متطلبات التعقيد، يتجاوز وزر النقاء.

في نفس الوقت يناقش الدكتور الشاذلي “ميزان القيم نفسها الذي يوزن به الفتى ومن هو خلف الفتى من أبعاد حضارية واجتماعية” يقول إنه ميزان فج وغليظ، “حيث لا نجد للإنسان في حد ذاته، الإنسان في ذاته ولذاته أي حسابا في معادلة القيم في نظر عين شرطية قطار حضارة ما وراء البحر” يستشهد بصورة أدبية رائعة، “للصدام بين قيم عالمين مختلفين، صدمة الواقع التي تجعل الفتى يشعر شعورا عميقا بخيبة الأمل من الانسلاخ عن تراب وطنه”.
(-سنحملها لك.
-ولكن لماذا تلقون علي القبض؟ أنا سائح، أهذه هي الحرية في بلادكم..
-تهمة التشرد!
وبخطى متعثرة بالذل تطاوع الدركي يجرك وراءه كالــــ …
دركي أمامك، ودركي وراءك يتابعك باحتقار، أنت بين دركيين..
وهي تتبع أثر الدركيين وكأنها تقول: أرأيت! ها نحن التقينا!)

يحلل الشاذلي منتقدا القيم المادية الجامحة في الحضارة الغربية قائلا: “إذا تساءلنا الآن، عما يريده الكاتب من هذه الصور الأدبية لهذا الفتى الغر؟ فهل المراد مجرد التأمل في موازين القيم السائدة هنا وهناك؟ أم أنه أراد إدانة محاولة القفز السريع من واقع ما زال يتشكل تحت ظروف صعبة، ولكن تحت معايير وقيم أخلاقية، تضع الإنسان كجذر لكل القيم، إلى واقع آخر قد استقرت فيه أنواع من القيم، تميل إلى اعتبار الرفاهية الرخيصة جذرا لكل القيم، بما فيها الإنسان ذاته حين يقول ولا شك أن الهدفين المرادين -أو غير المرادين- متحدان في الهوية وأن اختلفا في الكيفية”.

التغريب ظاهرة فنية تشكيلية
يقترب مفهوم التجريب من مفهوم التغريب برؤيتهما الفنية الجديدة غير المألوفة للأشياء، فلو نظرنا للتشكيل البصري في القصيدة المعاصرة نرى أن له مثيل في الشعر العربي القديم يتمثل فيما أنتجه الشعراء في العصر العثماني والمملوكي من أشكال جديدة كالتشجير والشعر الهندسي وغيرها، حيث عمد الشعراء إلى تنسيق قصائدهم والاهتمام بالناحية الشكلية البصرية بحيث تكون أضلاع ومراكز وأقطار هذه الأشكال منطلقا لتفعيلات أو وزن أو قافية أو حتى معنى متجانس أو مركب يخدم جمالية القصيدة، ويحكم طريقة قراءتها.

يؤكد الدكتور الشاذلي “أنه من المعروف في تاريخ الحركة النقدية عند العرب أن هذه الخواطر حول نقل التجربة الشعرية في الشكل أو المضمون أو فيهما معا كانت من الحوافز الرئيسة التي قادت بعض النقاد العرب القدامى إلى التأمل الدقيق لقضية العلاقة الجمالية بين كل من اللفظ والمعنى في التجربة الشعرية وذلك بد ً ءا من الجاحظ الذي كان يرى أن المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العربي والبدوي والقروي والمدني وإنما كان يرى الشأن في إقامة الوزن وتخير الألفاظ وسهولة المخرج وكثرة الماء وحتى في صحة الطبع وجود السبك، فإنما الشعر صناعة وضرب من النسيج وجنس من التصوير] (الجاحظ: الحيوان ج 2، ص 130 )، وقد استمر النقد العربي القديم يتابع أسرار الجمال الفني للشعر من المنظور ذاته حتى من خلال حوافز ترجمة المعنى الشعري شكلا ومضمونا.”

لا يبخس الشاذلي في كتابه الجوانب الإيجابية في النقلة النقدية العربية المعاصرة لكنه يؤكد عدم خلوها من مزالق النقد الشكلاني الذي يحاول أن يقنن الإبداع الشعري سواء أكان ذلك في إطار التشكيل الموسيقي له أم في إطار تشكيل صوره ومجازاته واستعاراته، لكنه يقول متفائلا إنه أمر قد تجاوزته فيما بعد الحركة النقدية والشعرية العربية المعاصرة، بسبب درامية الشعر الجديد وطابعه الموضوعي الفني ويتطرق إلى دراسة نازك الملائكة للتجديد في شعر إيليا أبو ماضي الذي كان عندها من أوائل المجددين بالقصيدة العربية الحديثة؛ لأنه منذ البداية يميز بين موضوع القصيدة وهيكلها، وهذا ما لم نجده في شعر معاصريه الكبار كشوقي وزملائه.

وبالفعل قد ذهب بعض الشعراء لبناء قصائدهم على شكل رسم هندسي أو رسم فني أو رسم خطي، وقد وظفت هذه الأشكال في الشعر باعتبارها مادة بصرية قابلة لأن تكون فنا تشكيليا يحقق متعة الجمال، أي أن الشاعر يعمل على جسد اللغة، يستغل الكلمات والحروف والأشكال البصرية لتكون بذاتها عملا إبداعيا مثير على الصعيدين الشعري والبصري.

في قصيدته “من قتل الزهرة” نرى شكل القصيدة لدى حكمت الحاج محكوم بتقنية تكرار السؤال بواسطة أداة الاستفهام (من؟)، ثم بضمير (أنا) فتبدو قصيدته مرسومة بشكل يجعل القارئ مستعدا لرؤية الحرف الأول من كل سطر بما يجعله قادرا على فهم الإلحاح في استفهام الشاعر ثم في إجابته على نفسه.
(من رآها تسقط، الزهرة؟
من سيحتفظ برونقها المها؟
مها..
من كفنها؟
من يحفر قبرها؟
من يكون كبير المعزين؟
من سيحمل التابوت عنها؟
من سيقرأ القرآن منها؟
من سيقول الله أكبر ؟
من سيكسر ضلعها؟
من سيدحو الباب عليها؟
من سيزرع في كفها عين القدر؟
أنا يقول العصفور
أنا يقول المقاول
أنا يقول الغروب
أنا تقول الربح
أنا يقول المنبر
أنا يقول السنونو
أنا تقول التفاحة
أنا يقول الغراب
أنا يقول اللهب
أنا يقول الشبق
أنا تقول القوة…
متى تمطر ؟
أنا التوت
أنا الموسيقى
وأضواء النيون في محطات الانتظار
أنا أعيش في لندن طويلا
ولكن لندن لا تعيش كثيرا)

نلاحظ في قصيدة الشاعر حكمت الحاج كيف يخدم شكلها مضمونها، ويصبح للأبجدية جسدا بعرض مادي مرتب على دعامة المعنى، ثم يوزعها الشاعر بترتيب يوحي بأنه مدروس سطرًا بعد سطر، حيث يمكنك تبديل الأماكن بين الخطوط المتوازية بينما تبقى جمل أخرى على شكل بقع في صفحة آلة كاتبة تنقش بانتظام وتوحي بالاستمرارية.

تجريب التراث
يقول عبد السلام الشاذلي: “إن ظاهرة الاغتراب في التراث العربي، لا تقتصر فحسب، على الميراث الشعري، فهي شديدة التوغل في النثر عموما، الفني والفكري على السواء، مثلما تجد في نثر أبي حيان التوحيدي ومن قبله عند الجاحظ في رسائله التي تموج بالشخصيات المغتربة، والتي يحاول فيها الجاحظ جاهدا صياغتها صياغة أدبية من أكثر من زاوية من زوايا فن القول.

يرد في خاتمة كتاب الشاذلي أن التغريب الثقافي لم يكن المقصود به الوقوف ضد تيارات الحداثة الفكرية أو الأدبية على الإطلاق، لأنه موقف يتناقض كلية مع محوري: تطور الأدب العربي المعاصر الذي نهض على أساس محورين هما الاتصال والتفاعل مع الثقافة العالمية، والاتصال بالتراث العربي بكل جوانبه الفكرية والأدبية والدينية والعلمية. وذلك دون الانغلاق والتقوقع في الماضي، بل قراءة هذا الماضي بضوء تطور الثقافة العالمية، ويستشهد قائلا إنه لولا قراءة السياب ونازك وعبد الصبور وأدونيس للشعر الأوروبي المعاصر، ما ظهرت في الثقافة العربية حركة الشعر الجديد وما استتبعها من إعادة قراءة التراث الثقافي كله. مع تأكيده على موقف موجود من الغرب، ليس الغرب الثقافي والحضاري، بالاستعماري الذي قهر جنوب اليمن والجزائر والعراق والشام وعمل على تقسيم الوطن الواحد.

ينعى حكمت الحاج في قصيدة في ديوان إنستغرام صديقه الكاتب قاسم محمد عباس كنوع من التذكير بفضائل الراحل الذي كان باحثا في التراث الصوفي فيقول:
(بعد صراع مع الغيلان في الفلوات الوحشية
صديقي الروائي العراقي والباحث المحقق في
التراث الغنوصي قاسم محمد عباس
يغادرنا إلى مثواه الأخير
بعد إسهامات ثرة في إغناء العقل العربي
وصلني اليوم نعيك صديقي قاسم
فلترافقك أصوات أجنحة جبرائيل
ولتؤنس وحشتك في الطريق
عطورات السهروردي المقتول
أنت الآن قوي بما يكفي
لتنساق التلال شفافة وراءك
ولتعبق الأحلام جنبك مسكاً وطيبا)

تجريب “تغريب التراث”
قد تكون التجريبية ظاهرة كونية إذا ما تمعنا في قول الدكتور الشاذلي أنها ظاهرة عامة “تمتد في الفنون الأخرى ولاسيما الموسيقى والفنون التشكيلية والسينمائية والمسرحية، وغير ذلك من الفنون المختلفة”، وتسمح لها بالتداخل مع بعضها.
والدكتور الشاذلي يصرح في الفصل الثالث الذي يتحدث فيه عن قضايا النسق الروائي في رواية “مأساة واق الواق” للزبيري بأن أهميتها كتجربة روائية رائدة في تاريخ الأدب اليمني الحديث، لا تقف عند حدود مضمونها السياسي، الاجتماعي فحسب، بل إننا نرى الأهمية ذاتها، فيما يتعلق بقيمتها الجمالية وذلك من حيث الشكل الفني الذي عبر الكاتب من خلاله عن موضوع الرواية.

ويؤكد الدكتور الشاذلي أن السمة الجوهرية للمستنيرين في كل زمان ومكان، هي كونهم أبدا أبناء أوفياء لعصرهم، ويذكر بأن العصرية إحدى التهم التي كان يلاحق بها رجال حركة 48 الدستورية في اليمن من قبل الإمام وأعوانه ولقد عبر الزبيري عن هذه المعاني كلها بمطالبته لجيله، أن ينضج فهمه، وانتماؤه إلي روح شعبه، وأن (يتغلغل فهمه إلى روح الحضارة الحديثة… وأن تكون عنده نزعة روحية ترتفع به فوق مستوى أهوائه الذاتية، ومنافعه المادية وهذا يؤكد كيف أن الزبيري كان كلاسيكيا حديثا لم يؤخذ بجماح الليبرالية في حركة الادب الغربي رغم تغربه، فتجربة الزبيري بحسب الشاذلي أبعد مما هو شائع عن الحركات الدستورية “الليبرالية” في الشرق، أو الغرب، فيعالج موضوع علاقة المستنيرين بالشعب في عدد كثير من قصائده، كـ “خطبة الموت”، و “رثاء شعب” معالجة درامية حية.

وبعد أن يستنتج الدكتور الشاذلي بشكل لا ريب فيه أن حياة الأديب، في نهاية المطاف، جزء لا ينفصل عن سياق الحياة الأدبية التي سادت عصره فإنه يشير بإيجاز إلى التغريب في هذه الرواية من خلال ملابسات أدب الرحلة التي تحتويها، وصلة ذلك برواية الزبيري.

ويرى أننا لم نخرج حتى الآن، بتحديد ما للشكل الفني لرواية الزبيري، ويرجع ذلك
إلى أن هذه الرواية لم توضع ضمن سياق تطور الرواية العربية الحديثة، التي عاشت فترة طويلة في نزاع بين الشكل الشعبي والموروث من (الحكايات) العربية القديمة: الشعبية والرسمية، وبين الشكل الأكاديمي أو المدرسي، فهي تزاوج بين الاثنين.

لكنه، أي الدكتور الشاذلي، لا ينفك يؤكد أن الشكلية كجزء من عملية التجريب والتغريب هي نتيجة اتصال حتمي بمحتوى الرواية ههنا وتجسد بقصصها الثلاثة رؤية الأديب لقضية (التغريب) عبر ثلاثة أبعاد حضارية مختلفة.

وبالنسبة للشعر وعلى الرغم من أنه ليس من السهل وضع معايير تسمح لنا ببناء علاقة مشتركة موضوعية بين التجريب والتغريب من جهة والتراث الذي غالبا ما يكون مقدسا عند العرب من جهة أخرى وحتى لو استطعنا، أعتقد أنه يتعين علينا أن نجرؤ على الاعتراف بأن الأمر قد يسمى تهورا شعريا مبالغًا فيه، وأن الثمن الذي يجب دفعه هو ترك التقدير الحقيقي للأعمال في حد ذاتها جانبًا، على الأقل لبعض الوقت، وفعل شيء مختلف يضع بالحسبان دائما الموروث بما يقوّم وجهة النظر الاختزالية العربية للعملية التجريبية والتغريبية. ثم لابد وأن يستقبل الجمهور والنقاد التجارب الجديدة مع معرفتهم المسبقة أنه من غير الممكن السيطرة الكاملة على العمل، وأنه لا توجد حقائق وقواعد نهائية فيما يتعلق بالشعر على وجه الخصوص وكيف على القصيدة أن تكون لغة وبنية وشكلا وموضوعا، دون أن يعفى الشاعر من إقناع محبي الشعر.
ولنتذكر أن الأدب رافق حتى العلوم رغم انتماءهما إلى تخصصات منفصلة على المستوى الأكاديمي، إلا أن العلوم والأدب لم يكن لهما دائمًا جذورا واضحة منفصلة بل ولدت المعرفة نتيجة تزاوج هما عند العلماء القدماء بمن فيهم عظماء العرب كجابر بن حيان، وابن سينا وابن الهيثم وحتى عمر الخيام وكذلك اليونانيون كأرسطو وأفلاطون ممن جمع الحالة العلمية مع الإنسانية فلم يكن أمام أفلاطون تفسير مقاومة الجاذبية في حقبته قبل ظهور العلم المادي الحديث سوى بأنها حالة عشق تسمو بالأشياء فتطفو، أو حتى مفارقة أخيل والسلحفاة لليوناني زينون الإيلي.

في ديوانه “إنستغرام”، يدخل حكمت الحاج بشكل مذهل في عملية تجريب متداخلة مع التغريب فيتكرر التجريب كعملية بناء “شكل” في القصيدة متجليا في جمل طويلة جدا، كما يتكرر “التجريب بالتغريب” من خلال الحديث عن “الروليت الروسي” متداخلا مع العملية الأولى في تجريب الشكل، ثم مع التراث وهو يتحدث عن ملحمة جلجامش كوصفة غريبة ممتعة فريدة يتقاطع فيها الواقع والحلم والخيال والفانتازيا فيبتكر عوالم جديدة، من خلال تقنياته الفنية الوفيرة، فنكتشف في قصائده مستويات لغوية تتجاوز المألوف، وتتعالق نصياً مع أنواع الخطابات الغربية فتحقق مستويات لغوية عربية مختلفة كما في القصيدة التالية:
(وعندما بزغت شمسك في حياتي
وأنا في المحطات الأخيرة من القطار النازل
منحتني القوة كي أقطع تذكرة إضافية لمحطات قادمة
وطالت الرحلة وستطول
إلى أن تأتي أنت وتركبي نفس القطار
فنترافق بضع محطات
وعندما سأصل محطتي الأخيرة
سأكون مثل كلكامش قد وصلت الخلود فانزل)

التجريب فعل تحرر
في كتابه “التجريب والتغريب في الأدب العربي المعاصر” يكشف الشاذلي عن هذا البعد الثقافي والجمالي الأكثر عمقا وأشد دلالة في مجري حياتنا الثقافية الراهنة، وهو البعد الخاص بتفسير الخطاب الثقافي عامة والخطاب الديني خاصة، ولا يجد حكمت الحاج في قصيدة من تكونين في ديوانه “إنستغرام” حرجا من إعادة تعريف علاقة الدين بحياتنا الرومانسية والروحية فالحب يشبه الله في أبديته كما يبدو في أبياته الجميلة وهو يقول:
(صلينا لك في معابد عشتار
وزرنا لأجلك الكعبة المشرفة
ولثمنا الحجر الأسود في الثنايا
ونحرنا في عرفات
وما حظينا بالشفاعة منك)

خاتمة
إن التجريبية التي يتحدث عنها الدكتور الباحث عبد السلام الشاذلي هي منهج علمي يتضمن إجراء الملاحظات، وتكوين الفرضيات، واختبار تلك الفرضيات من خلال التجارب، واستخلاص النتائج بناء على نتائج تلقي الجمهور، إنها عملية منهجية وتجريبية تسمح للباحثين بالتحقيق في نتاجهم، بل حتى أن يصبحوا نقادا يتحلون بفن الحكم على الأعمال الأدبية أو الفنية، وبالقدرة على تقييم فرضياتهم ونتائجها الشعرية ثم قبولها ذاتيا أو رفضها.

إن القواعد اللغوية الحازمة، والتراث الثابت، لا يوفران فرصة دائمة لإعطاء البوح بالتدفقات الإنسانية مدياته الواسعة، في عصر تتداخل فيه الثقافات، وتكثر فيه الغرابة والاغتراب والتغريب، لذا لا بد أن من تجريبية توسع الإنتاج الشعري وتحرره من مضاميره المرسومة مسبقا، دون الخوف من قالب مفهومي ثابت لما يجب أن يكون عليه الشعر، فنشرع بالحكم عليه هذا شعر وليس أي شيء آخر غير ذلك شعرا، أو أن نقول إن الأول هو الأفضل ثم نقيس على ذلك، بل إن الشاعر المبدع هو الذي يشرع في تأسيس ما يمكن أن يكون اختلافًا شعريًا، بحيث نفقد حقنا الذي نظنه حقنا في التقرير مسبقا أننا نفهم الشاعر وذاته.

ولقد فهمت من تداول تغريب الأجناس الأدبية أنه حقل جديد يمازج بينها ويخرج بها من حدودها إلى عدد لا يحصى من المساحات الصغيرة، يمكن لأي مبدع ان يجد نفسه بها دون الخوف من اتهامه بالتهور، إن فهم التجريب والتغريب من قبل النقاد ستساعدهم كذلك بعدم الانزعاج من نص لا يمكن مقاومة جماله.

لكن إن سمحت لنفسي أن أختم ناصحا الشعراء قبل النقاد باقتنائه مستشهدا بإحساس تملكني وهو أن كتاب التغريب والتجريب في الشعر العربي المعاصر هو افتح يا سمسم الشعراء، برنامج الأطفال التعليمي الأمريكي الأصل مطلع القرن العشرين في الولايات المتحدة حين تفشى الفشل المدرسي بين الأطفال الصغار في الابتدائية وتخلفوا عن الالتحاق بها رغم إلزاميتها، وأثناء البحث عن حل، وجد العلماء طريقة جيدة للغاية: التلفاز! شارك في المشروع اثنا عشر أستاذًا من جامعة هارفارد، جعلوا البرنامج يعلم التجريب هنأ رئيس الولايات المتحدة ريتشارد نيكسون نجاح العرض، الذي كان أيضا بمثابة مختبر للتعددية الثقافية ساعد بدمج الأقليات، في المجتمع الأميركي، مع الاحتفاظ بهويتهم.

إن حركة التجديد المستمرة في الأدب العربي وهي نتيجة مباشرة لبحث الشعراء العنيدين عن الابتكار والحداثة، وليس بعيدا عما حصل في المجتمعات ما بعد الصناعية حيث ارتبط تطورها بالجمهور المستهلك، فإن ذلك لا بد أن ينطبق على الأدب، يبقى السؤال من يقود هذا الارتباط ومن يقيم الابتكارات هل هم المعلمون الأكاديميون أم النقاد أم الناشرون أم أنهم الساسة!

أضف تعليق

موقع ويب مدعوم بواسطة ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑