قراءة في القصة القصيرة جدّا “ديمقراطية”..


نجاح عز الدين


ديمقراطية..
قصة قصيرة جدا بقلم: عبد الله الميالي
(ملّ الحاكم من الرّتابة. نطامه الوحيد العالم بلا معارضة.طلب من ولده المراهق أن يقوم بانقلاب مفبرك. لم يصدّق الولد أنّ المسرحيّة ستنجح بهذه السّرعة. فالجماهير تصفّق بفرح، وهو يشنق والده)



يطالعنا عنوان القصّة القصيرة جدّا “ديمقراطية” لعبد الله الميّالي  ملتزما بما يعرف بالمنّاصة، وهي العنونة. فتتحرّك سواكننا وينتابنا الإحساس الّذي تكرّر منذ عهود مضت. منذ أن نشأ هذا المصطلح في العالم الغربي، هذا الإحساس الممتزج بالغبن والاستهزاء والتّجاهل و الإغراء أحيانا. طالما قرعت آذاننا نواقيس لفظة الديمقراطية في مواقع متضادة، جعلتنا نتوهّم أنّنا أدركنا مفهومها، فصرنا نتخيّلها كما يتخيّل العميان الطيور المحلّقة في الفضاء. فيقولون عنها ملائكة نسمعها ولا نقدر على لمسها. تفتننا الديمقراطية وتغرينا ولكنّنا لا نجرؤ على ربط علاقة حميميّة حقيقيّة معها. وتبقى الرّغبة في اللّقاء أو الاتّصال بها وتشمّم جسدها الطريّ النّاعم حلما مشتهى، ولكن ليست كل الأحلام متاحة، وليست كلّ المفاهيم قابلة للتّطبيق، ما لم تتوفّر المناخات الضروريّة لها.
هكذا اختار السّارد العليم في هذه القصة القصيرة جدا عنوانها، وهو المثقف الحامل لمفاتيح وعي الشعوب، إذ من واجبه وعلى عاتقه مهمّة الدعوة إلى التّحرّر والحرّية. فما علاقة العنوان بالمتن الحكائي؟
تقدّم هذه “القصة القصيرة جدًا”مشهدا مذهلا يقوم على المفارقة يبدأ مسلّيا، لينتهي مأساويا، محقّقا فعل الإدهاش، فيما يعرف في القصّة القصيرة جدّا القفلة. هذا المشهد مليء بالإيحاءات، توسّل فيه السّارد بجمل اتّسمت بالاقتضاب والتلميح.
بدأ الحدث الأوّل هادئا نبش فيه السارد في أعماق شخصيته البطلة “الحاكم” هو حاكم يطول مقامه في كرسيّه لا يبرح مكانه حتى “ملّ الحاكم من الرّتابة” وهو في هذه الوضعيّة لا يختلف كثيرا عن وضعية الموظّف في الإدارة فالوضع تحت السيطرة ويعمّ الأمن والأمان، والكلّ ينعم بما ينعم به الحاكم من خيرات البلاد فلا يجرؤ أحد أن يزحزحه، “فنظامه الوحيد العالم بلا معارضة”. لكنّ السّارد يقفز الى أعماقه فيقتنص شيئا من إحساسه ويبوح به لنا لأنّه ليس من عادة الحكّام أن يتصالحوا مع أعماقهم. وينظروا في مرآة ذواتهم فيكتشفون أنّ الاستبداد قد يحدث الضجر، ومع ذلك لا يفكر حتّى على سبيل التّسلية أن يشاركوه هذا البوح النفسي،كيف له أن يحظى بهذه النزوة؟ -وكم كان لصاحب السلطة نزوات- وهو الّذي اقتلع آذانهم وفقأ اعينهم فتشوّه سمعهم وعميت أبصارهم فاستكانوا لعالم بلا معارضة، وأمنوا شرور السلطان  في ظلّ سلطته الاستبداديّة الّتي لا تؤمن باختيار الحرّيّة نظاما لها في إطار عقد اجتماعي. فلا ترعى هذه السلطة حرّيّة التعبيرعن الرّأي والتّفكير. فيتلاشي حلم المواطن ويصير جثّة هامدة لا يخشى منه. قطيع يطيع لا يقود الكلام بل ينقاد للكلام فيخجل من الحرية, ومن عبارة الحريّة فيمحوها من كلّ معاجمه بل ويتفنن في ابتكار معاجم جديدة تصبّ جميعها في الولاء للحاكم، مستنجدا بالخطاب الديني يفتي أحكاما ويصدر شرائع تبرّر سلطان الطاعة وتدنّس الحرّيّة لفظا وفعلا.
يتدرّج السّرد بجملة، يختزل بها السّارد أحداثا كثيرة، ويحمّلها إيحاءات جديدة، فينتفل من وضع الهدوء والرتابة إلى بداية الحركة وكأنّ السّرد يستجيب لبواطن النّفس فيحقّق الحاكم ما رام فعله، طالبا التّسلية والخروج من حالة الملل بعد أن ارتاحت نفسه للجماهير الّتي ماعادت تمثّل خطرا يهدّد عروشهم. بل لم تكن يوما كذلك هي االآن عاجزة ومتعبة لا يرهقها غير لقمة العيش. إنّ الحاكم الآن خبير بجماهيره، باعتبار أنّه حكمهم بالنار والحديد بالالتجاء إلى لغة الرّصاص وخيار الحرب الاجتماعيّة مطفئا نور الحوار مشعلا بديلا عنه فتيل الصراع الدّمويّ. قتل بذلك  الحلم عندهم وخنق الخيال، ولم يعد الانقلاب على السّلطة يعنيهم ولا هو مطمحهم بل صار لفظ الحريّة يخيفهم.
فما ضرّه لو تسلّى مع ولده ومارس لعبة الانقلاب عليه؟ فـــ “طلب من ولده المراهق أن يقوم بانقلاب مفبرك” فالشعوب العربية لا تقدر على الفعل الحقيقي هي ماهرة فحسب في اللعب على الذقون وتغيير الأوراق. ولعلّ اكتضاظات المقاهي كافية لتؤكد مهارة الشعوب في قتل الزمن في القهقهات ولعب الورق وتدخين النرجيلة والثرثرة الّتي لا تنتهي .
هدا الولد المدلّل، المراهق  يريد أن يجرّب كلّ شيء، هو منضو تحت جناح الحاكم، يواكب حماقاته منذ أن كان صغيرا، ولشدّ ما كان منبهرا بسياساته يتّبع خطاه ويستوعب دروس الاستبداد. هاهو يدخل  الآن مرحلة جديدة في الكشف، لم يعد ذلك الصّبي الأبله الثرثار صار باستطاعته أن يتسلّى مع الحاكم بطلب منه في لحظة زمنية منفلتة. ينقل السّارد العليم هواجس الولد المراهق، المجازف، فيقبل على تجربة الانقلاب دون أن يتوقّع النجاح. ولكن يبهرنا السّرد، وينقل لنا فرحة الجماهير وهاتافاتها مستبشرة بنجاح المسرحيّة بسرعة غير متوقّعة. فيتداخل اللّهو بالجدّ، ويتماهى الفرح بالألم، وتلتقي الحياة بالموت، وينقلب المشهد من النّقيض إلى النّقيض، كاشفا عن مفارقة رهيبة قد تنقلب فيها المهزلة إلى مأساة. ويحصل الإدهاش  ويشنق الولد والده في خضمّ مباركة الجماهير. ارتأى الراوي اعتماد المفارقة لتفعيل تلقي النّص. إذ يتحوّل الحاكم من وضع الاستئناس بالسلطة والاحتفاء بها عادة، إلى الشعور بالرّتابة والبحث عن التّسلية دفعا للملل،  بممارسة “الانقلاب المفبرك”، إي الكاذب في محاولة بيضاء، إلى وضعيّة حقيقيّة وهي الشنق الحقيقي. فيتداخل الواقعي والتخييلي، ويصبح الفعل المسرحي آليّة من آليا ت الممارسة السردية الّتي تؤسس مشهدا غير ممكن واقعيّا. ولكن هو كاشف لرؤية الراوي الشخصيّة. وهي رؤية مميّزة خاصّة تنعكس للمروي له بشكل غير مباشر؛ وتعدّ الرؤية في كتابة النص القصير جدّا هي العنصر الأكثر أهميّة من عناصر الخطاب الّتي يدرك بها مكامن الجمال والتّميّز فيه.
كان مستوى الحكاية في هذه القصّة القصيرة جدّا أكثر حضورا. باعتبار أنّ المفارقة غالبا ما تتأسس عليها الحكاية. فأنجز نصا محافظا على الشرط الفني، وابتعد عن الوقوع في المباشرة.  بالإضافة إلى ذلك لا ننسى أن نشير إلى حضور ترهين الأحداث. فأظهر مبدع النّص ترابط حدوث حدث بآخر كأن تلازم طلب الحاكم بالتلبية من قبل الولد، وتلازم التلبية بفعل التّصفيق. لقد أعطى حضور الترهين زخما وقوّة أكبر لفاعليّة الخطاب السردي.
يبدو المؤلف عبد الله الميّالي في هذا النّص القصصي القصير جدّا،  حاملا لهمّ إنساني، وصاحب مشروع مهمّ، فاشتغل في هذه القصّة القصيرة جدّا على قضية سياسية، تشغل الإنسان العربي خاصة، وإنسان العصر عامّة في علاقة بالوطن.
يحلم العربي بالديمقراطية ولا يعرفها. ولا يمكن لها أن تتحقّق حتّى وإن شنق الولد والده الحاكم.
استغل الراوي التمثيل المسرحي، كآلية يمكن أن تستخدمها الشخصية للشعور بالتّغيير، وصدّق المقموع أنّ الحلّ في قتل القامع المستبدّ، ليستمتع بالديمقراطية.
توسّل المؤلف بالترميز وكثرة الإيحاء، في الفعل الجملي بتجسيد المشهد المسرحي، ليعريّ آلية من آليات الحكم الّتي تنعم بها الدول الغربية العظمى، الّتي تؤمن بالحرّيّة وهي الديمقراطية، الّتي تترعرعت عندهم في ظلّ نضج مجتمعاتهم المدنية، واستقلالها النسبي عن المجتمع السياسي، وفي نطاق الإيمان بحرّية أولئك الّذين يختلفون معك في أسس التّفكير؛ ولن يتأتّى للمجتمع العربي، أن ينتقل من مجتمع الرّأي الواحد إلى مجتمع حديث منفتح، ومتعدّد، بدون هذه القناعة الديمقراطية. وفي ظل مناخ الاستبداد لن ينمو غير التّزمّت، والتّصلّب المعتقدي، في سياق التّخلّف، والقتل، والشنق، والتناحر، والإرهاب. والديمقراطية الّتي تأتي عبر الانقلابات تبقى ديمقراطية مفبركة ووهميّة تلوكها الألسن وترفع شعارات فضفاضة وعناوين بلا وجهة. هكذا “ديمقراطية” كانت عنوانا لهذه القصّة القصيرة جدّا لفظا نكرة، شوّهتها الانقلابات، مدّعية أنّها تحقّقت بفعل الثورات. فبئس الديمقراطية الّتي لم تخلّف غير التراجع إلى الوراء.
استطاعت هذه الكتابة أن تجمع بين الحكائية، والوحدة العضوية للموضوع  ملتزمة بالقفلة المدهشة وبرهنت على فعلية الجملة.

أضف تعليق

موقع ويب مدعوم بواسطة ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑