بنى البداية والنهاية..


قراءة في كتاب “شخصية المثقف في الرواية العربية الحديثة” للدكتور عبد السلام الشاذلي



عبد الجليل حمودي



من العادات السيئة عند القرّاء أنهم يتجاوزون عند قراءتهم لأيّ كتاب، المقدّماتِ والتمهيدَ، إلى متن الكتاب،  ثم يطوونه دون التطرّق إلى الخاتمة ولو بطرف عين. إنّ الكتاب عندهم هو المتن فقط به ينفتح وعليه ينغلق.
إنّ المقدّمات والخواتيم عند هؤلاء ما هي إلا حلية لا وظيفة لها سوى تزيين الخطاب الوارد في المتن. إنها من فضلته لا من عمدته. هذا الاعتقاد يتهاوى أمام تمحيص التعامل الجدّيّ مع الكتب إذ نجد أشهر حجة في ذلك وأقواها ما فعله ابن خلدون الذي سافرت مقدّمة كتابه في الافاق مكانا وزمانا أكثر من الكتاب نفسه ناهيك عن وظائف المقدمات والخواتيم التي تحرّرها من كونها التجميلي إلى وظائف منهجية ومفهومية متعدّدة. من ذلك مثلا أنّ المقدمة خريطة تدلّ القارئ إلى شوارع المتن وأنهجه. دليل يوضّح له طريقة السير ويمنحه بعض المفاتيح التي تساعده على الولوج إلى مغالق الكتاب إضافة إلى تبيان اصطلاحيّ للجهاز المفهومي الذي يتوسّل به الكاتب. إن المقدّمة تفتح للقارئ أفق انتظار لقراءته توجّهه فتنقذه من إمكانية الضياع في صحراء متن الكتاب.
أما الخاتمة فتكمن أهميّتها في كونها عقدا بين الكاتب والقارئ يعلمه خلاله بانتهاء الكتاب فيمنحه خلالها لمحة عامة عن الإشكاليات التي جادلها أثناء المتن ويذكّره بما عرضه وصولا إلى النتائج التي تحققت من دراسة موضوعه المتطرّق إليه لتنتهي الكثير من الكتّاب إلى فتح آفاق على مواضيع مستقبلية لها بالموضوع علائق وشيجة.
هكذا تكون المقدّمات والخواتيم أسسا للكتاب وأجزاء لا يمكن الاستغناء عنها بل إنها تشكّل عتبات للنص على حدّ عبارة “جيرار جينيت” لا يمكن فهم النص والولوج إليه إلا عبر المرور بها وتخطّيها.
إنّ هذه المقالة إذ تؤمن بضرورة الاعتناء بالمقدّمات والخواتيم فإنّها ارتأت أن تبحث في مقدمة كتاب “شخصية المثقف في الرواية العربية الحديثة” للناقد المصري د. عبد السلام الشاذلي معرّجة على التمهيد منتهية بدراسة خاتمته. وهي ترى أن هذا الكتاب مثّل حجّة دقيقة وعميقة على حسن توظيف المقدمات والخواتيم في الكتاب فزعمت أنّ الناقد كان واعيا تمام الوعي بضرورة انعتاق عتبات النص من وظيفتها التجميلية إلى وظائفها المنهجية والمفهومية والتمهيدية فتكون بذلك الصورة واضحة في تحديد العلاقة الجدلية بين عناصر البداية والنهاية (المقدمة، التمهيد،  الخاتمة) ومتن الكتاب.

*المقدمة
يفتتح الناقد عبد السلام الشاذلي المقدمة بتحديد مشكلتين رئيستين تعترضان الباحث في مجال الأدب الحديث أما الأولى فهي مدى قدرة الباحث في تخطّي معرفته بأيّ نوع من أنواع الأدب العربي الحديث إلى دقّة علمه بالعوامل والمؤثرات الأساسية التي شكّلت تطور هذا الأدب. وقد أجمل الكاتب هذه العوامل في عاملين رئيسين. فالأدب العربي الحديث حسب اعتقاده تطور بفضل علاقته بالثقافة الأروبية الحديثة من جهة وترابطه بالتراث الثقافي العربي من جهة أخرى.فنتبيّن معه أنّ الأدب العربي الحديث سليل ثقافتين مختلفتين منشأ وزمانا. وحتى يتمكّن الباحث من إيجاد السبل الواضحة والعميقة في آن للتعامل مع أيّ نوع من هذا الأدب في علاقته بالثقافتين المذكورتين آنفا عليه أن يكون حصيفا في المناهج العلمية الحديثة فيختار أفضلها حتى يتوصل إلى أسلم النتائج العلمية.
أما المشكلة الثانية فتعود إلى طبيعة دراسة الشخصيات المثقفة بصفة عامة والشخصيات الأدبية بصفة خاصة التي تميل إلى التعقيد وتتداخل ضمنها الكثير من الإشكاليات من بينها البحث في العوامل والمؤثرات الأساسية الحافة بتطور الأدب العربي الحديث وضرورة حسن اختيار الناقد للمنهج العلمي لدراسة ذلك الأدب انبرى يبرّر سبب اختياره الرواية فنا أدبيا يتتبّع خلاله شخصية المثقف وتطوّرها عبر تاريخية الرواية العربية مبيّنا أنها “فن يقوم على منهج بناء أكثر تكاملا إذا ما قورنت بالمسرحية أو الشعر أو الشعر المسرحي أيضا” وهي تتصف بصفة المرونة في التعامل مع الشخصيات ناهيك عن شخصية المثقف ومشاكله الأساسية.
ثم يطلع الناقد قارئه على المدونة المدروسة واضعا لها حدَّ بداية هو ” تخليص الإبريز في تلخيص باريز” سنة 1834 وحدَّ نهاية هو رواية ” خان الخليلي” سنة 1946. مدار الدراسة إذن هو الرواية العربية على مدى قرن من الزمن تقريبا بجمع بين النصفين الأخير من القرن التاسع عشر والأول من القرن العشرين. وإذا أردنا أن نصفها في علاقتها بتاريخ الرواية العربية فإنه يجوز لنا أن نقول أنّ عبد السلام الشاذلي يدرس شخصية المثقف في بواكير الرواية العربية وبداية نضجها.
  وقد بين بعد ذلك منهجه بكل وضوح معلنا أنه سيتّبع الاستقراء التاريخي والتحليل النقدي المنهجي. نفهم من ذلك أنّ تناوله بالدراسة لهذا الموضوع سينتهج خطين متعامدين. الأول سانكروني يهتم بجانب التطور التاريخي الذي يحدثه زمن بالنسبة إلى زمن سابق له والثاني دياكروني يهتم بنموذج روائيّ في حد ذاته وهكذا يظهر لنا استفادة الناقد من المنهج اللساني السوسيري والإلمام به بل والتعمق فيه. كما يلمس القارئ انشغال الناقد ببحثه من خلال إلحاحه المستمر على ذكر الصعوبات التي تعترضه مبيّنا أنّ صعوبة معالجة شخصية المثقف تعود إلى طبيعة سماته بصفته إنسانَ علم ومعرفة وموقف حضاري عام تتعالقه ببيئته الاجتماعية جدلية التأثير والتأثر وتتضاعف هذه الصعوبة إذا خصّصنا دراسة شخصية المثقف في الرواية باعتبارها فنا ماكرا. فبتعدد الشخصيات فيها تتعدد الآراء والرؤى وتتنوع المواقف والتوجهات والاتجاهات لذلك يجد الباحث نفسه أمام شبكات عنكبوتية معقّدة تُلزمه بكثير من الجهد حتى يفكّك خيوطها يسهل عليه التعامل معها. وتنضاف إلى هذه الصعوبات تعدّد الأشكال الفنية داخل العمل الروائي الواحد ويضرب في ذلك مثل رواية «سارة» لعباس محمود العقاد الذي يراها «رواية تحليلية أو تحليلا روائيا كما يشاء من يشاء» إلا أنها تتضمن أشكالا متعددة فقد «بدأها المؤلف على أنها مجموعة من المقالات تحت عنوان «مواقف في الحب» وكادت تتحول إلى بحث فلسفي عن «عبقرية الأنثى» أو «الأنثى العبقرية» بحيث نراه يجمع بين المقالة حينا والشعر المنثور». ثم انبرى بعد ذلك الناقد يعدد نماذج أخرى من الروايات التي تحمل أشكالا فنية متنوعة إلى أن يصل إلى إشكالية التجنيس في الرواية. فلئن اعتبر وضوح تجنيس الأعمال الإبداعية الأروبية فإنه يقرّ باعتياص ذلك في الأعمال الروائية المصرية متسائلا على حدّ اعتبار « قنديل أم هاشم» ليحيى حقي رواية؟ قائلا «إننا إذا أخضعنا هذا الفن الروائي بمصر خلال ما يزيد عن المائة عام للمقاييس النقدية الأروبية الحديثة عن الرواية كفنّ فإنّ ثلاثة أرباع هذا الإنتاج الروائي المصري سيخرج من دائرة الفن الروائي». ثم يشير بعد ذلك إلى إشكالية العلاقة المتشنّجة بين المثقف المصري سواء من خارج الرواية (الروائي) أو من داخلها (الشخصية الروائية) والثقافة الأروبية الحديثة. هذه العلاقة أوجدت ظاهرة الاحتجاج التي بدأت خارج الرواية فانعكست داخلها. كل ذلك جعل الجنس الروائي غير مستقر في تجنيسه وبالتالي صعوبة التعامل معه تحليلا ونقدا بما هو فن مكتمل الذات واضح المعالم والحدود. تستتبع كل ذلك دعوة الكاتب إلى الاستنجاد بعملية التنقيب إذا أراد الباحث أن يتثبت من مراحل تطور شخصية المثقف دون إخلالٍ بالمقاييس العامة لتطور الفن الروائي كما عرفته الرواية العالمية والعربية على حدّ سواء. ولئن كانت نتيجة التنقيب خادعة بإظهار تفكك شخصية المثقف في الروايات العربية المدروسة فإنها تخفي في عمقها تفكك حياة المثقفين أنفسهم خارج إطار الرواية فحياة الكاتب في الرواية المصرية من حياة رواياتهم. إنها فوضى عارمة يحكمها التفكك والتشظي بين شخصيات المثقفين داخل الرواية المصرية وجب إعادة تنظيمها ولا يمكن فعل ذلك حسب عبد السلام الشاذلي إلا ب:
1 دراسة شخصية المؤلف على أساس من التطور التاريخي
2  تحليل شخصية المثقف تحليلا موضوعيا
3  جعل الإطار التاريخي نقطة انطلاق جوهرية للمقارنة بين طبيعة الشخصية المثقفة في كل مرحلة تاريخية على حدة وبين طبيعة هذه الشخصية في المرحلة السابقة عليها أو التالية لها في نفس الاتجاه الفني.

*  التمهيد
إذا كنا اعتبرنا أن المقدمة في كتاب « شخصية المثقف في الرواية العربية الحديثة » قد بينت الجهاز المنهجي بما هو سبيل سينتهجه عبد السلام الشاذلي في ثنايا متن الكتاب فإن التمهيد يمثل الجهاز المفهومي والخلفية النظرية التي تتأسس عليها هذه الدراسة. افتتح الناقد تمهيده بحصر مفهوم المثقف وقد اعتمد في ذلك على مرجع غربي هو  Encyclopedia of the art intellectuals الذي يعتبر أنّ المثقفين هم «الأشخاص الذين يمتلكون المعرفة وموهبة الحكم على المواقف المختلفة. والصفة الغالبة على كل المثقفين هي استيعابهم لأدوات المعرفة واستخدامها في العمل الذهني» والمثقفون أيضا «هم أولئك المنتجون في ميادين العلم أو التدريس أو الفلسفة أو الأدب أو الفن». ليستنتج الباحث من ذلك أن ملامح المثقف تختصر في العلم والمعرفة والموقف الحضاري العام واشتراك المثقفين في هذه الملامح تجعل منهم يتّسمون ب «النزعة العلمية المنهجية والرومنسية من حيث هي تعبير عن النزعة الفردية لدى المثقف ومن حيث قيمتها الأصيلة بالنسبة للفنانين خاصة. والسمة الثالثة هي التمرد أو الثورة وأخيرا الشعبية وهي نزعة ذات أهمية بالغة في تكوين نفسية المثقفين منذ بداية القرن 18 فصاعدا وذلك من حيث إن المثقف شخصية تنزع باستمرار إلى تقديم حكمتها وذكائها إلى الشعب».
لكن رغم أنّ المثقفين يظهرون من خلال التحديدات السابقة مجموعة متناسقة متّسقة المعالم فإن الكاتب لا يعتبرهم طبقة اجتماعية متبنّيا رأي “جوزيف شومبير” الذي يقرّ أنّ المثقفين “ليسوا بالطبقة الاجتماعية في المعنى الذي يؤلف فيه العمال الصناعيون والفلاحون  طبقتين اجتماعيتين فهم ينبعون من جميع زوايا العالم الاجتماعي فهم ينمّون مواقف اجتماعية ومصالح مجموعية قوية” وبذلك نفهم أنّ مواقف المثقف ليست مواقف طبقية فينعتق من الطبقية ليتجلى موقفه الحضاري بوضوح أكبر.
واستنادا إلى هذا المفهوم فإنّ الدراسة ستتّبع تحولات شخصية المثقف في الرواية العربية الحديثة ضمن ثلاث مراحل لها قسّمها عبد السلام الشاذلي إلى مرحلة الرواية التعليمية ثم مرحلة الرواية الرومنسية ثم مرحلة الرواية الواقعية مبيّنا العمليات المعقدة بين المثقف وبين المواقف والموضوعات الاجتماعية والحضارية المتطورة موضّحا الفرق بين المثقف والعالِم فالمثقف يكون له أفق عالمي دائما يتجاوز به المجتمع الضيق فكأننا بالشاذلي يضع المثقف في مرتبة أعلى من المجتمع مستندا إلى نظرة طه حسين في سخريته من سلطة الشعب في كتابه “مستقبل الثقافة في مصر”. كما إنّ تمهيد الكتاب يشير إلى أنّ المثقف عادة ما يحمل ما أسماه هيجل بالوجدان المعذب فهو واع أكثر من غيره بهموم مجتمعه بل بهموم العالم بأسره.
وينهي الكاتب تمهيده بالحديث عن الرواية بما هي فنّ فيرى “أنّ الحبكة الروائية تمثل العمود الفقري لهذه الجوانب المتعددة للرواية كفنّ” مستندا في ذلك إلى رأي ” أدوين موير” الذي يقول في كتابه “بناء الرواية” إنّ حبكة الرواية ضرورة شعرية أو جمالية كأيّة ضرورة في أيّ نوع آخر من الأنواع الأدبية إنها صورة للحياة لا مجرد تسجيل حرفي للتجربة… ويستطيع الكاتب وقد رأى الحياة في بعدها الزماني أو في بعدها المكاني أن يبني علاقات حبكته وقيمها الدينامية بنجاح وحتى النهاية وأن يحوّل إحساسه الغامض العرضي للحياة إلى صورة إيجابية إلى حكم خيالي”.
كما يبيّن أنّ للحبكة وظيفتها المنطقية إلى جانب وظيفتها الجمالية حيث نرى من خلالها “مفاتيح جديدة وسلاسل جديدة من السبب والنتيجة والشعور النهائي إذا كانت الحبكة جميلة”. ثم يستخلص الكاتب في النهاية أنّ الرواية تجاوزت كونها مجرد فكرة إلى اعتبارها منهجا لبناء مشاعر مؤثرة وتجسيدها عن طريق تسلسل ما. ويلخّص حدود الفن الروائي في كونه يسير نحو نقطة “إثارة الاهتمام” عند المتلقي. فلا رواية تنتمي إلى الفن الروائي ما لم تحقق إثارة الاهتمام بتسلسل ما. ويعرّج على آراء الكتّاب الكبار في الرواية الذين يرون أنها “وثيقة للشعور” مستشهدا بمقولة لتوفيق الحكيم يرى فيها أنّ الفن الروائي “هو بعث الانطباع وإبراز الشعور” وأخرى لنجيب محفوظ يعتبر فيها أنّ الرواية “وثيقة تسجيلية تعتمد أولا وأخيرا على القلب والعاطفة والوجدان”.
*الخاتمة
يختتم عبد السلام الشاذلي دراسته عن « شخصية المثقف في الرواية العربية الحديثة» بإعلان صعوبة معالجة شخصية المثقف بصفة عامة بإقراره بأن المثقف يرنو إلى العيش في الم ومجتمع يتسمان بالجدّة إلى جانب كونه يحلم ببناء إنسان جديد. وتتضاعف هذه الصعوبة عند البحث في الإنسان المثقف في المجتمع المصري. لأن أغلب الثقفين المصريين ينبثقون من بيئات فقيرة سواء كان ذلك في المدن بأحيائها الهامشية أو الأرياف فكان التناقض الأبدي بين البحث عن رغيفين الأول معرفي والثاني واقعي. فأيهما أولى من الآخر؟ تلك هي مأساة المثقف المصري. إضافة إلى ما تحمّله المثقف المصري في المرحلة المدروسة من تاريخ مصر من ثقل الحمل الذي يكبّله به الاحتلالين التركي والانجليزي فهما يحولان دون انطلاقه إلى عالم أرحب سمته المطلقة هي الحرية مما جعله يعيش عقدة نفسية تتمثل في الشعور بتفوق الأجنبي ثقافيا وحضاريا وسياسيا. هذه العقدة عاضدتها عقدة أخرى من الشعور بالتفوق الأروبي عليه في جميع المجالات فهو يريد أن يركب سفينة الحضارة ليكون سباقا في المدّ الحضاري الإنساني الذي وصلت إليه أوروبا لكن فاقة حاله الاجتماعية والاحتلالين التركي والانجليزي تكسّر مجاديفه في كل مرة مما يجعله متقاذَفا بين أمواج اليأس مرة ورياح الإصرار على بلوغ المآرب مرات أخرى. كل ذلك انعكس على شخصية المثقف في الرواية العربية بظهور النزعة الخطابية عنده فاتّخذ لنفسه رداء «المعلّم» ولكن ذلك لم يبرز إلا بداية من القرن العشرين عندما التحمت الرواية بجمهور القراء مما مهّد الطريق لعامل تأكيد «الذات» في الرواية الرومنسية فيما بعد فكان أن نضج وعي الشخصية المصرية عامة في عهد سعد باشا زغلول بكيانها الذاتي بعد كبت سياسي وقهر اجتماعي ظل مستمرا لفترة طويلة من الزمن. وقد لاحظ الناقد أن شخصية المثقف في الرواية الرومنسية قد مر بمرحلتين فصلت بينهما الحرب العالمية الثانية فالمثقف قبلها حافظ على الرباط المقدس بين الوعي بالذات وبين إمكانية استشفاف الواقع أما بعد الحرب فإن الوعي بالذات قد ضاع وسط مصادفات غريبة ليظهر مفهوم آخر سماه الناقد الوهم بالذات.
ويقر الشاذلي بعد ذلك أن الرواية الواقعية عالجت شخصية المثقف داخل نطاق بعض المبادئ الاجتماعية والطبيعية مما عظمت عوامل ثلاثة داخلها هي الجنس والبيئد والعصر جعلتها تتحكم فيها فكانت أسيرة لها.. وهو ما أزعج الناقد فأشار بملاحظة لطيفة إلى أنّ ذلك لئن كان يساهم في تطور الرواية العربية فإنه لم يساعد على تقديم شخصيات مثقف بصورة سوية ومتكاملة
ثم ينتبه إلى قدرة نجيب محفوظ العجيبة على إعادة الاتّزان إلى شخصية المثقفة من خلال اكتشافه لمعادلة دقيقة تحدد العلاقة بين أهمية سمات الإنسان المثقف: إرادته الواعية من جهة وعوامل البيئة والوراثة من جهة أخرى مستشهدا في كل ذلك بشخصية «كمال عبد الجواد».
هكذا إذن يمكن أن نقرّ بأنّ عبد السلام الشاذلي من النقاد الذين أولوا عتبات نصوصهم عناية فائقة فاعتبروها جزءا لا يتجزّأ من الكتاب كلًّا. إنه يؤمن بأنّ المقدمة عقدٌ بينه وبين قارئ كتابه. يوضّح له بعض مغالقه. فكانت المقدمة والتمهيد بمثابة الخريطة التي تساعد الأخير على الولوج إلى المتن والسير في تهاريجه بكل ثبات. إنهما الأسس المنهجية والنظرية التي ارتكز عليها الناقد لتقديم دراسته عن شخصية المثقف في الرواية العربية الحديثة فنبّه القارئ إلى المدونة التي سيشتغل عليها والمتدة على قرن كامل من الإبداع الروائي العربي مقسّما ذلك إلى ثلاثة مراحل كبرى: مرحلة الرواية التعليمية مرحلة الرواية الرومنسية مرحلة الرواية الواقعية ثم ينبّه قارئه أيضا إلى منهجه في تحليل الرواية نموذجا منفردا حينا وتعالقها مع ماسبقها وما لحقها أحايين أخرى مما جعلنا نتفطن إلى استفادة عبد السلام الشاذلي من المنهج السوسيري في اللسانيات.
أما في التمهيد فقد انبرى الناقد يحفر في مفهوم المثقف باعتباره إنسانا مفردا وباعتباره مجموعة. فهو من جهةٍ كلّ إنسان علم ومعرفة وموقفٍ حضاريّ يكوّن مع غيره “طائفة أو فئة ذات ملامح وأبعاد عامة في أيّ مجتمع من المجتمعات الإنسانية” من جهة أخرى.
ثم يعدّد وظائفه داخل المجتمع موضحا العلاقة الجدلية بينهما مصرّا على انبعاث المثقف من قلب المأساة التي تتضاعف عند المثقف المصري الذي تتناوبه الرزايا من احتلالين تركي وانجليزي وتخلّف عن ركب الحضارة الأروبية إضافة إلى بيئته الفقيرة. وقد نبّه الناقد أنّ كل ذلك خاضع إلى سمة التطور من مرحلة روائية إلى أخرى فسمات الروائي تختلف في كل مرحلة روائية عن غيرها. أما في الخاتمة فإن عبد السلام الشاذلي عدد النتائج التي توصّل إليها بعد تحليله لشخصية المثقف في الرواية العربية الحديثة لنتبيّن معه النزعة الخطابية المهيمنة على الرواية التعليمية والوعي بالذات في الرواية الرومنسية ثم ضياع ذلك الوعي عند المثقف وإعادة التوازن له بفضل نجيب محفوظ. إن عبد السلام الشاذلي ناقد قدّم لنا حجة منطقية ودليلا عقلانيا قاطعا على أن عتبات النص في النص النقدي لا تختلف عن النص الإبداعي فلم تكن أبدا من فضلات الكلام وإنما هي عمدة الكتاب التي لا يمكن الاستغناء عنها. إنه الناقد العارف بما يكتب والواعي بما سيكتب والملتزم بعقده مع قارئه.

رأي واحد حول “بنى البداية والنهاية..

اضافة لك

  1. مقال موفق شكرا للأستاذ عبد الجليل حمودي وللدكتور عبد السلام الشاذلي

    إعجاب

أضف تعليق

موقع ويب مدعوم بواسطة ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑