عن “أصوات”، والبلاد التي لا باب لها..

جلال حمودي *



الى: حكمت الحاج



ثقب الأوزون كان شبحا في مسرحية لم تكتب بعد، لكن حدسه أخبره بأن المؤلف سيستدرجه في مسرحيته لأن يكون طيبا ولطيفا وعاشقا ويحلم بعناق النجوم والكواكب الصغيرة لا بابتلاعها. خوفه من هذا اللطف والحب هزّه داخليا فسما دون رجعة. حينها كان المؤلف يرفع كأسه عاليا في غرفته الصغيرة بمدينة سوسة ويقول وداعا، سأهبك في كل سنة قرابين كثر. كل شخصياتي التي محوتها من ذاكرة النص الذي سوف يأتي، ستكون لك، عسى أن تملأ جوفك الفارغ. وسأوصي الذين سيرثونني بعدي، خيرا بك.
هكذا يفكّر دائما. يهب الفراغ هويّة، ويخيط جرح المسافات بأوهن خيط. لا تسعه المدن الضيقة، كذلك في كتاباته، فهو أرحب من بلاد تغلّق أبوابها ليلا.
لا باب له، لا نوافذ. هكذا، شاهرا حبّه علنا، فاتحا قلبه للذين سيأتون من كل فج عميق. عرفته إنسانا قبل أن أعرفه شاعرا او مسرحيا أو كلاهما.
التقيت به في مدينة كلها شعر، وطرنا هناك دون أجنحة بعد أول تواصل بيننا عن الشعر والمسرح والحياة. رأى حينها اني مولع بالعبث مسرحا وحياة، فاقترح ثلاثيته “جن أو الموعد القاتل”.
“خذها ولا تخف”. قالها وهو ينظر جهة البروطة القيروانية إلى أربعينية أشف من النسيم وأرق من الندى تمشي الهوينى.
قال هذه قصيدة أخرى لم أجد الوقت لأكتبها..
أذكر اني قرأت ثلاثيته لأكثر من مرة، وآخرها في مدينتي بني خداش والساعة تشير حينها إلى الثالثة صباحا، والكأس اللاأدري عددها في يدي، وبنت لم تتجاوز العشرين قبالتي بعد أن انتهينا من طقوس عبادة الالهة القديمة والجديدة ركضا في شوارع واسعة وضيقة ومنحدرات وهضاب، عاريا ومتأنقا ومكبّرا ومبسملا ومعربدا وقارئا للعناصر التي أحضنها.. قلت صارخا: هذا هو، هذا هو!
ذعرت البنت، فهذه اول جملة نطقت بها منذ آخر آهة بيننا. قلت لها إني أراك داخل هذا النص ولا أرى غيرك فيه. قالت ما هو؟ قلت شطحة صوفية من حكمت الحاج، آخر المريدين لربه ديونيزوس.
لم تفهم ما قلت.
ولا أخفي سرا أنها للآن، وبعد كل هذا الوقت الطويل، لم تفهم ما قلته.
كانت الشطحة الصوفية هي “الأصوات”.
أحدثت شرخا، ولا قيمة لنص لا يحدث شرخا في التاريخ وفي الدنيا، ولا تهتز له الأكوان عربدة.
قلت حينها لحكمت اني اخترت هذا النص ليكون محور اشتغالي.
واخترت فريقي.
فكنا قاب قوسين أو أدنى من الجنون.
“أصوات”. هكذا استقام العنوان أخيرا دون ألف ولام التعريف فهو لا يحتاجهما. استقام بشعرية أخرى بعد أن تتونس على يد أمينة لزينب بن ضياف، فكان النص تونسي اللهجة كوني المحتوى.
ثمة شرارة من الحب والصدق بهما كونت عالما حقيقيا ومتخيلا يفصلهما غشاء من النقر على أدوات إخراجية سحرية أحسب أني تمكنت منها. وأظن أن كل من شاهد العمل استنتج التالي:
وأنت تقرأ لحكمت الحاج عليك أن ترتدي جيدا كي لا يعبرك البرد وأن لا تلبس جيدا كي لا يصيبك الحرّ.
أن لا تقف طويلا خشية أن تسقط.
وأن لا تجلس طويلا خوف أن تصاب بالشلل.
عليك أن تأخذ من كل طرف، وتعبر إليك.

* جلال حمودي: شاعر وممثل ومخرج مسرحي من تونس.

أضف تعليق

موقع ويب مدعوم بواسطة ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑